البومة

البومة

عام من النجاة: كيف نجونا من الجنون الذي أصاب الأخرين: p 3 الاخير.


 التدوينة التالية هي الجزء الثالث والأخير من سلسلة تدوينات عن الصحة النفسية، وهي تجربة خاصة بالكاتبة تحمل رؤيتها ورأيها. 
بدأت السلسة مع الجزء الأول ، واستكملنا التجربة مع الجزء الثاني وها هو ذا الجزء الثالث والأخير.

لماذا نتحدث عن أمراضنا النفسية: الاحتفال بمحاولة ناجحة للنجاة:

من ضمن الأشياء التي تغيرت بشكل ملحوظ في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 هو الحديث عن الصحة النفسية في مصر، فموضوع الصحة النفسية كان شديد الحساسية والنخبوية، وحتي المقبلين علي خدمات الصحة النفسية كانو يحرصون علي القيام بذلك بحرص شديد وبسرية تامة خوفاً من الوصم الإجتماعي بالطبع.
لكن بعد اندلاع ثورة يناير، وما تبعها من الكثير من الأحداث التي كانت غريبة وشديدة الوقع علي الكثيرين، أصبح هناك طلباً متنامياً علي خدمات الصحة النفسية، وخصوصاً بعد ظهور علامات التحسن الإيجابي علي هؤلاء الذين أقبلوا علي الخدمة.
ومع ازدياد عدد المتعافين، واستمرارهم في تقديم النصائح بخصوص التوجه لطلب خدمات الصحة النفسية، أصبح عدد المقبلين عليها في تزايد، مما شجع الكثير من المتعافين علي كسر "تابو" الاعتراف بتلقي خدمات الصحة النفسية أو العلاج النفسي. 

الحالة الايجابية التي يتركها العلاج النفسي، والقدرة التي يمنحها للشخص في المضي قدماً في حياته يحققان قدراً كبيراً من الرضا والإشباع بما يفوق الخوف من الوصم وخصوصاً لدي قطاع عريض من الشباب.
كما أدي انتشار المؤسسات والمنظمات غير الربحية والتي تقوم بالترويج والدعاية لخدمات الصحة النفسية في تحسين الصورة بدرجة كبيرة، حيث لاقي هذا السلوك اقبالاً من العاملين بهذه المنظمات انفسهم علي الحصول علي الخدمة، وعدم الاحساس بالوصم داخل وسط العمل، فمن غير المقبول الترويج لخدمة ثم وصم المقبلين عليها.
الحديث عن تجربة العلاج النفسي يختلف كلياً عن الإحتفال بالنجاة من الجنون الذي كدنا أن ننزلق اليه، وهنا يظهر السؤال الذي أرغب وبشدة في طرحه: لماذا – كمتعافين- يجب علينا الاحتفال بالنجاة؟

أين كنا، ثم أين أصبحنا:

عندما تستمع إلى تجربة شخص خضع للعلاج النفسي ثم نجح معه الأمر، سوف تلاحظ أنه يتحدث عن تجربته بكثير من الحماس والفخر، فهو بالطبع يتذكر جيداً كيف كان حاله عندما توجه لطلب الدعم النفسي للمرة الأولى، وكيف تغير وضعه بدرجة كبيرة في اللحظة الحالية، وهي تقنية غالباً ما يشجع بها الأطباء والمعالجين النفسيين الأشخاص المترددين عليهم لحثهم علي الإستمرار في العلاج، والمقاومة.
كثيراً ما كنت أشعر باليأس، وأتحدث مع طبيبي المعالج، أو معالجتي النفسية في المرحلة السابقة وأخبرهم كم أًصبحت أشعر باليأس والتعب وفقدان الأمل، ليتفق كلاهما على تذكيري بأنني قطعتُ بالفعل شوطاً طويلًا حتى أًصل للمرحلة التي وصلتُ إليها الأن، وأنني يجب أن أتذكر دائماً كيف كنت عندما بدأت رحلة العلاج، وكيف أصبح وضعي الأن.
نعم، لقد أختلفت وضعي كثيراً من فتاة تفاضل ما بين القاء نفسها من الطابق السابع أو تحت عجلات مترو الأنفاق إلى فتاة أخرى تدون عن الصحة النفسية وتروي تجربتها لتشجيع الآخرين على أن يفخروا بأنفسهم لأنهم تمكنوا من النجاة يوماً آخر. 

إعادة طرح للسؤال: لماذا يجب علينا الإحتفال:

أن تتجاوز مراحل كثيرة من كبت الألم، ثم تتوجه لطلب خدمة للأسف "موصومة" في مجتمعاتنا غير المتعلمة وموصومة أكثر بين أوساط المتعلمين أنفسهم، تمر بمراحل صعبة من الألم، اكتشاف الذات، التصارح معها، تقبل ذاتك بعيوبها وندوبها ونواقصها وصفاتها الحقيقية، تدرك كل ذلك وتستمر في رحلة العلاج حتي تتجاوز المرحلة الصعبة التي وقعت فيها، ويصبح لديك الإدراك لوضعك قبل العلاج وبعده، وأن تصبح مؤمناً بأهمية الخدمة وضرورة التوجه لطلبها- الا يستحق كل ذلك الإحتفال؟ 

قد تبدو كلماتي بسيطة وسهلة، ومن يقرأها يشعر بالاستغراب من كل هذه الضجة التي اثيرها بالحديث عن النجاة، لكن بالتأمل في مغزي كل كلمة، وتخيل ما وراء كل كلمة من مراحل مؤلمة ومشاعر لا يُدركها الا صاحب التجربة نفسه، عندها يمكنك أن تشعر بأن الموضوع بالفعل يستحق الإحتفال بنجاتنا.
الجانب الأهم في تجربة العلاج النفسي هي الثقة، والإصرار! أن تثق في المعالج، وأن تثق في أن العلاج سيجلب نتيجة، وأن تظل مصراً علي استكمال الأمر لنهايته. 
الخصوصية الشديدة للمرض النفسي تجعله أمراً صعب التقبل لدي الكثير من الأطباء أنفسهم. يتعامل الأطباء والواقعيين من أتباع المدرسة السلوكية في العلوم الطبيعية مع المرض بوصفه أمراً ملموساً له سبب يمكن قياسه داخل المعمل وله أسبابه الواضحة التي يمكن اختبارها. ولما كان المرض النفسي لا يخضع لهذه القواعد- حتى الآن- والتقدم الذي يحرزه علي مستوي القابلية للإخضاع لقواعد البحث المعملي لا تزال محدودة للغاية، فذلك يجعله محلاً للتشكيك من كثير من الأطباء وغير المتخصصين.
 
يتعامل الكثير من الأطباء، والمختصين مع الأمراض بوصفها أعراض قابلة للعلاج والحكم والسيطرة والشفاء في كثير من الأحيان، وعليه يمكن للمريض أن يتوقف عن تناول الدواء، لكن للأسف ليس الأمر كذلك فيما يتعلق بالمرض النفسي، لأن استقرار حالة المريض يتوقف في كثير من الأحيان علي استمرار المريض في تناول العلاج لفترات طويلة بعد ثبوت التعافي، أو مدي الحياة كما في حالة الأمراض الذُهانية، أي أننا – كمتعافين- نستمر لفترات طويلة للغاية في تناول الأدوية واتباع التكنيكات الخاصة بالتعامل مع ما مررنا به، والتوقع بشكل مستمر امكانية حدوث انتكاسات، والتعامل معها. 
عند التعامل مع المرض النفسي، تتحول فكرة "التعافي" إلى رؤية عامة للحياة، وتقبل لأن يحمل المتعافي مرضه علي ظهره لفترات طويلة من حياته، وأن يعتاد علي كون المرض النفسي مرضاً مزمناً مثل أمراض الضغط والسكر والقلب، وأن المريض يجب أن يكيّف حياته علي واقع جديد يتضمن تغييراً في رؤية الفرد لذاته وحياته.
" أنا لستُ مرضي النفسي، لكن مرضي النفسي جزءاً مني، ومن يرغب في تقبلي عليه أن يتقبل هذا الجزء" علي حد قول متعافية من المرض.
 
نهاية الرحلة:

هي ليست نهاية الرحلة، بل بداية رحلة جديدة، برؤية مختلفة وعيون أكثر اتساعاً علي تقبل الذات بكافة أبعادها وظلالها السوداء والرمادية، والتسامح معها والشعور بالفخر لكوننا أقوياء بدرجة كافية سمحت لنا بتجاوز كل هذا مع بقاءنا أحياء، قادرين علي البوح وتشجيع الأخرين علي خوض نفس التجربة التي خضناها، لعلها المنجية.

إن من أحب الأعمال إلى الله، الإحتفال بالنجاة,,,,,

انتهى،،،،،،

 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق