البومة

البومة

عن عالم تسامحنا معه بعد أن كنا "أعداوه"


مساء الجمعة 20 ديسمبر 2019، كنت اطالع بريدي الإلكتروني كالمعتاد، منتظرة خبراً ساراً، أي خبراً ساراً ينعش قلبي بالأمل، لكن عوضاً عن ذلك وجدت رسالة من برنامج خاص بتقديم المنح الدراسية يخبرني بأنني قد تم رفض طلبي المقدم للحصول علي منحة دراسية كنت أعوّل عليها أملاً كبيراً للعام القادم.

شعرت بالقهر الشديد، فالقهر هو الكلمة التي يمكنها أن تعبر عن حقيقة شعوري عن المرحلة الراهنة التي أمر بها! كم من مقابلة عمل اجتزتها لأتلقي خطابات "الإعتذار" المعتادة التي هي في حقيقة الأمر رفضاً مهذب الصيغة، كم من منحة دراسية اتقدم للحصول عليها قبل أن يصلني خطاب الإعتذار المكرر والذي يحمل في طياته رفضاً مهذباً. كم عدد المرات التي شعرت فيها بالإحباط والرفض المقنع أو الواضح.

في هذه المرحلة، أنا – ساره- بلا مورد رزق، بلا منحة دراسية، بلا مخطط حياة واضح، بلا ولاشي كما يقول زياد رحباني! فقط يحدوني الأمل الأحمق في أن العالم يحمل لي مستقبلاً أفضل، وأن غداً يوم أخر، وإلى نهاية العبارات التي نواسي بها أنفسنا، فقط أستمر في ضبط محاولاتي للبكاء وأستمر في تناول أدوية الحماية من القلق والتوتر، واضيف عليهم جرعة صغيرة للغاية من دواء النوم الذي وصفه لي طبيبي المعالج كي استغرق في نوم عميق، لعل ولعسي استيقظ في اليوم التالي علي أملاً مختلفاً أو مصيبة جديدة تزيل أثر المصيبة القديمة.

اليوم التالي: السبت 21 ديسمبر:

استيقظت متأخرة من نومي العميق، تناولت إفطاري وشاهدت التلفزيون قليلاً ثم فتحت جهاز الكمبيوتر الخاص بي كي ألعب قليلاً لعبتي الالكترونية المفضلة، وأطالع الأخبار التي فاتتني الاسبوع الماضي، وأمارس نشاطي المعتاد في التفكير!

تأكلني الأفكار دون أن تضربني الأمطار، وتتوالي وأتذكر مناقشاتي – أو مشاكساتي- مع زملائي بالأمس في دبلوما التراث العربي المسيحي، وأتذكر كم كنت هادئة ومتفهمة علي غير عادتي وأنا استمع لتبرمهم من مناهج البحث الأكاديمية المعتادة، وأتذكر أيضاً كم من المرات التي تشاجرت فيها مع والدي بسبب الطرق المختلفة التي يتبعها كل منا للبحث العلمي. أتذكر كل ذلك لأجد أنني افتح موقع التواصل الإجتماعي "فيس بوك" لأكتب منشوراً طويلاً للشكر والعرفان لكل من ساهم في وصولي للحظة الراهنة من مرحلة السلام "البحثي والأكاديمي" بعد أن كنت فتاة صغيرة مشاكسة ومتحيزة ولا تستمع الا لصوت تحيزها الخاص وتتشاجر عوضاً عن محاولة البحث عن زاوية نظر مختلفة.

وجدت نفسي اعترف بالفضل في ذلك لأبي الرائع وأمي المدهشة وأساتذتي الرائعين..

هل يتوقف الأمر علي ذلك؟ بالطبع لأ،

وجدت نفسي – وباللغرابة- افتح بريدي الالكتروني وابعث برسالة رد علي السيد منسق برنامج المنحة لأبلغه بخالص شكري له علي جهده في تنسيق البرنامج، وأنني بالطبع كنت اتمني الإلتحاق بالمنحة، لكنة هذا لا يمنع تقديري لجهوده المبذولة. هي رسالة قد لا تهم السيد جوزيف منسق المنحة التي أرسل مثلها لقرابة الألف شخص، لكنها تهم السيدة ساره يوسف التي شعرت بالحزن وتمنت بالأمس أن تصفع السيد جوزيف، ولكنها اليوم تدرك أن رسالة السيد بالرفض ليست شخصية!

نعم يا أمي، لقد هرمنا وأصبحنا نعي جيداً بأن "إيميلات" الرفض ليست شخصية..

ماذا فعلا بنا التجارب القاسية، وندوب الروح:

اتذكر الأشخاص الذين مروا في حياتي، تاركين اثارهم الطيبة والسيئة. لطالما علق الأشخاص السيئون في أذهاننا كونهم كانو طيبين ولطفاء في البداية قبل أن يتحولوا لشخصيات مؤذية للغاية، كونهم لم يجيدوا الإستمرار في كونهم لطفاء، للنهاية!

نحن نتأذي كثيراً من اساءات من أحببناهم وتركناهم يدخلون قلوبنا، يصبح تأثيرهم قاتلاً عندما يشرعون في التصرف بشكل سئ، ولذلك نشعر تجاههم بالكثير من الألم، والأسي، ثم الغضب، فالرغبة في الإستبعاد فيما بعد.

يتصرف الأخرون ممن أحببناهم وأحبونا بشكل سئ للكثير من الأسباب! أتعلمون، لم أعد أرغب في معرفة أي منها، فما حدث قد حدث وما فعلوه من جراح دامية في قلوبنا أثره لم يبرأ بعد، أو برأ لكن الجرح ما زال لونه مختلفاً عن باقي القلب، أو لون الجرح صار طبيعياً ولم يعد له أي اثر، لكنه تطلب الكثير من العناية ومستحضرات ازالة الندوب والمضادات الحيوية والمسكنات، وتطلب أيضاً الكثير من المال لإتمام هذه العمليات. الفتيات يدركن جيداً ضريبة الحصول علي بشرة نقية خالية من آثار الجروح، ويدركن جيداً تكلفة الأمر. هل تختلف القلوب عن البشرة! اشك.

نعم، لقد نضجنا، لكن هذه العملية لم تحدث فجأة أو بشكل يسير. لقد نضجنا وأصبحنا رائعين بنفس الطريقة التي يتم بها انتاج الأواني الزجاجية باهظة الثمن. تم وضعنا تحت ضغط شديد ودرجات حرارة عالية اذابتنا تماماً وجعلتنا نصرخ من الألم بدرجة أزعجت الكون من حولنا، وجعلتنا مثار لشفقة الأجرام السماوية وقطرات الأمطار والحيوانات الأليفة، والغرباء!

يوماً ما، أحببت شخصاً، ومنحته قلبي وروحي النقية، فما كان منه إلا أن مزق روحي مرة وأخري ومرات! تألمت وسقطت وبكيت وانهرت وحاولت ايذاء نفسي بشدة! ثم تعافيت واخرجته من حياتي، تماماً، لكن الثمن كان باهظاً! لم يتحول الحب لكراهية، لكنه أصبح استبعاداً كاملاً للشخص بكل ما يحيط به من ذكريات وأشخاصٍ آخرين! أتدرون، لو رأيت هذا الشخص يتمزق أمامي لما اهتزت مني شعرة واحدة تزيد عما سيهتز بداخلي إذا ما تعرض أي شخصاً آخر لنفس الظروف، ولحاربت العالم من أجله فقط لتطبيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وليس الإعلان الكوني لمن أحب!

أتذكر سيدة أرستقراطية أخري رائعة للغاية، لكنها ساذجة أيضاً، وتصيبها نوبات غضب طائشة أصبحت لا أتحملها بل تؤذيني بشدة! منذ فترة قررت أن أبتعد عنها بسلام وأقطع كل صلتي بها، وأن أتوقف عن التعامل معها كشخص أعرفه لأحولها لشخص عرفته يوماً ما، وأطبق عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وليس اعلان أحبائي! هي لن تتغير، ولن تتوقف عن حب الجميع وايذائهم بالحماقة، ولكنني لن أتراجع عن قراري، وسوف أظل اكن لها التقدير، وكفي!

من نسامحهم، نسامحهم، لكننا لا نعيدهم لحياتنا مرة أخري، أبداً.... تلك هي الصفقة، ونحن من نضع القواعد ببساطة. اذهبوا فأنتم الطلقاء، ولن تعودوا مرة أخري، مهما فعلتم! أو عودوا، وتحملوا قواعدنا، وقواعدنا فقط!

عالم رائع، جديد.

هكذا تصالحنا مع العالم، وهكذا تقبلناه بعدما خضنا الكثير من الحروب. نحن نخوض الحروب من أجل السلام، سلامنا أولاً ثم سلام الكون المحيط بنا. هكذا تقبلنا العالم بكل سلبياته وكوارثه وآلامه وتوقفنا عن أن نصير أعداءً. لم نعد الشباب والفتيات الذين صاروا أعداء لهذا العالم كما قال يوحنا بن الرعد، لكننا صرنا الشباب والفتيات الذين تسامحوا مع العالم، وأصبح لهم ذراعان، أحدهما يحمل وردة، والآخر يحمل سكيناً، بعد أن قطع الآلم وكراهية النفس زراعينا.

الرسالة واضحة، نحن نريد لأنفسنا السلام، لكن أي محاولة لزعزعة هذا السلام ستنتهي بقتل فاعلها. اتركونا لشأننا وسلامنا النفسي ومحاولاتنا الحثيثة للتجاوز، وحدنا. كونوا جزءاً منها، أو ستذهبون للجحيم، بتوقيعنا... وتأكدوا أننا لن نترككم الا هناك.

تلك هي تجربتي العميقة اليوم، أما غداً، فلا داع لأن نضيع الكثير من الوقت للتفكير فيه.

#أهلا2020

(هذه التدوينة مهداة إلى القديس يوحنا ، الذي كان ابن الرعد، ثم صار يوحنا الحبيب، وهو قديسي المفضل..)

عام من النجاة: كيف نجونا من الجنون الذي أصاب الأخرين: p 3 الاخير.


 التدوينة التالية هي الجزء الثالث والأخير من سلسلة تدوينات عن الصحة النفسية، وهي تجربة خاصة بالكاتبة تحمل رؤيتها ورأيها. 
بدأت السلسة مع الجزء الأول ، واستكملنا التجربة مع الجزء الثاني وها هو ذا الجزء الثالث والأخير.

لماذا نتحدث عن أمراضنا النفسية: الاحتفال بمحاولة ناجحة للنجاة:

من ضمن الأشياء التي تغيرت بشكل ملحوظ في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 هو الحديث عن الصحة النفسية في مصر، فموضوع الصحة النفسية كان شديد الحساسية والنخبوية، وحتي المقبلين علي خدمات الصحة النفسية كانو يحرصون علي القيام بذلك بحرص شديد وبسرية تامة خوفاً من الوصم الإجتماعي بالطبع.
لكن بعد اندلاع ثورة يناير، وما تبعها من الكثير من الأحداث التي كانت غريبة وشديدة الوقع علي الكثيرين، أصبح هناك طلباً متنامياً علي خدمات الصحة النفسية، وخصوصاً بعد ظهور علامات التحسن الإيجابي علي هؤلاء الذين أقبلوا علي الخدمة.
ومع ازدياد عدد المتعافين، واستمرارهم في تقديم النصائح بخصوص التوجه لطلب خدمات الصحة النفسية، أصبح عدد المقبلين عليها في تزايد، مما شجع الكثير من المتعافين علي كسر "تابو" الاعتراف بتلقي خدمات الصحة النفسية أو العلاج النفسي. 

الحالة الايجابية التي يتركها العلاج النفسي، والقدرة التي يمنحها للشخص في المضي قدماً في حياته يحققان قدراً كبيراً من الرضا والإشباع بما يفوق الخوف من الوصم وخصوصاً لدي قطاع عريض من الشباب.
كما أدي انتشار المؤسسات والمنظمات غير الربحية والتي تقوم بالترويج والدعاية لخدمات الصحة النفسية في تحسين الصورة بدرجة كبيرة، حيث لاقي هذا السلوك اقبالاً من العاملين بهذه المنظمات انفسهم علي الحصول علي الخدمة، وعدم الاحساس بالوصم داخل وسط العمل، فمن غير المقبول الترويج لخدمة ثم وصم المقبلين عليها.
الحديث عن تجربة العلاج النفسي يختلف كلياً عن الإحتفال بالنجاة من الجنون الذي كدنا أن ننزلق اليه، وهنا يظهر السؤال الذي أرغب وبشدة في طرحه: لماذا – كمتعافين- يجب علينا الاحتفال بالنجاة؟

أين كنا، ثم أين أصبحنا:

عندما تستمع إلى تجربة شخص خضع للعلاج النفسي ثم نجح معه الأمر، سوف تلاحظ أنه يتحدث عن تجربته بكثير من الحماس والفخر، فهو بالطبع يتذكر جيداً كيف كان حاله عندما توجه لطلب الدعم النفسي للمرة الأولى، وكيف تغير وضعه بدرجة كبيرة في اللحظة الحالية، وهي تقنية غالباً ما يشجع بها الأطباء والمعالجين النفسيين الأشخاص المترددين عليهم لحثهم علي الإستمرار في العلاج، والمقاومة.
كثيراً ما كنت أشعر باليأس، وأتحدث مع طبيبي المعالج، أو معالجتي النفسية في المرحلة السابقة وأخبرهم كم أًصبحت أشعر باليأس والتعب وفقدان الأمل، ليتفق كلاهما على تذكيري بأنني قطعتُ بالفعل شوطاً طويلًا حتى أًصل للمرحلة التي وصلتُ إليها الأن، وأنني يجب أن أتذكر دائماً كيف كنت عندما بدأت رحلة العلاج، وكيف أصبح وضعي الأن.
نعم، لقد أختلفت وضعي كثيراً من فتاة تفاضل ما بين القاء نفسها من الطابق السابع أو تحت عجلات مترو الأنفاق إلى فتاة أخرى تدون عن الصحة النفسية وتروي تجربتها لتشجيع الآخرين على أن يفخروا بأنفسهم لأنهم تمكنوا من النجاة يوماً آخر. 

إعادة طرح للسؤال: لماذا يجب علينا الإحتفال:

أن تتجاوز مراحل كثيرة من كبت الألم، ثم تتوجه لطلب خدمة للأسف "موصومة" في مجتمعاتنا غير المتعلمة وموصومة أكثر بين أوساط المتعلمين أنفسهم، تمر بمراحل صعبة من الألم، اكتشاف الذات، التصارح معها، تقبل ذاتك بعيوبها وندوبها ونواقصها وصفاتها الحقيقية، تدرك كل ذلك وتستمر في رحلة العلاج حتي تتجاوز المرحلة الصعبة التي وقعت فيها، ويصبح لديك الإدراك لوضعك قبل العلاج وبعده، وأن تصبح مؤمناً بأهمية الخدمة وضرورة التوجه لطلبها- الا يستحق كل ذلك الإحتفال؟ 

قد تبدو كلماتي بسيطة وسهلة، ومن يقرأها يشعر بالاستغراب من كل هذه الضجة التي اثيرها بالحديث عن النجاة، لكن بالتأمل في مغزي كل كلمة، وتخيل ما وراء كل كلمة من مراحل مؤلمة ومشاعر لا يُدركها الا صاحب التجربة نفسه، عندها يمكنك أن تشعر بأن الموضوع بالفعل يستحق الإحتفال بنجاتنا.
الجانب الأهم في تجربة العلاج النفسي هي الثقة، والإصرار! أن تثق في المعالج، وأن تثق في أن العلاج سيجلب نتيجة، وأن تظل مصراً علي استكمال الأمر لنهايته. 
الخصوصية الشديدة للمرض النفسي تجعله أمراً صعب التقبل لدي الكثير من الأطباء أنفسهم. يتعامل الأطباء والواقعيين من أتباع المدرسة السلوكية في العلوم الطبيعية مع المرض بوصفه أمراً ملموساً له سبب يمكن قياسه داخل المعمل وله أسبابه الواضحة التي يمكن اختبارها. ولما كان المرض النفسي لا يخضع لهذه القواعد- حتى الآن- والتقدم الذي يحرزه علي مستوي القابلية للإخضاع لقواعد البحث المعملي لا تزال محدودة للغاية، فذلك يجعله محلاً للتشكيك من كثير من الأطباء وغير المتخصصين.
 
يتعامل الكثير من الأطباء، والمختصين مع الأمراض بوصفها أعراض قابلة للعلاج والحكم والسيطرة والشفاء في كثير من الأحيان، وعليه يمكن للمريض أن يتوقف عن تناول الدواء، لكن للأسف ليس الأمر كذلك فيما يتعلق بالمرض النفسي، لأن استقرار حالة المريض يتوقف في كثير من الأحيان علي استمرار المريض في تناول العلاج لفترات طويلة بعد ثبوت التعافي، أو مدي الحياة كما في حالة الأمراض الذُهانية، أي أننا – كمتعافين- نستمر لفترات طويلة للغاية في تناول الأدوية واتباع التكنيكات الخاصة بالتعامل مع ما مررنا به، والتوقع بشكل مستمر امكانية حدوث انتكاسات، والتعامل معها. 
عند التعامل مع المرض النفسي، تتحول فكرة "التعافي" إلى رؤية عامة للحياة، وتقبل لأن يحمل المتعافي مرضه علي ظهره لفترات طويلة من حياته، وأن يعتاد علي كون المرض النفسي مرضاً مزمناً مثل أمراض الضغط والسكر والقلب، وأن المريض يجب أن يكيّف حياته علي واقع جديد يتضمن تغييراً في رؤية الفرد لذاته وحياته.
" أنا لستُ مرضي النفسي، لكن مرضي النفسي جزءاً مني، ومن يرغب في تقبلي عليه أن يتقبل هذا الجزء" علي حد قول متعافية من المرض.
 
نهاية الرحلة:

هي ليست نهاية الرحلة، بل بداية رحلة جديدة، برؤية مختلفة وعيون أكثر اتساعاً علي تقبل الذات بكافة أبعادها وظلالها السوداء والرمادية، والتسامح معها والشعور بالفخر لكوننا أقوياء بدرجة كافية سمحت لنا بتجاوز كل هذا مع بقاءنا أحياء، قادرين علي البوح وتشجيع الأخرين علي خوض نفس التجربة التي خضناها، لعلها المنجية.

إن من أحب الأعمال إلى الله، الإحتفال بالنجاة,,,,,

انتهى،،،،،،