البومة

البومة

عزيزتي نهلة... أكتب اليكي نصاً إنسانياً


العزيزة دكتور نهلة،
أتمني أن تكوني بخير صحة وحال.
أعتدت مؤخراً أن أكتب نصوصاً إنسانية لأشخاصٍ شاركوني بعض الذكريات المميزة التي مررت بها، علي سبيل العرفان بالجميل، أو إجترار الذكريات السعيدة- علي غير العادة- أو إجراء حديثاً إفتراضياً من طرف واحد، لتعذر تبادل هذا الحديث في عالم الواقع، إما لوجود حاجز في الزمان، أو المكان، أو لكون الكلمات تمارس عادتها السيئة في الهروب عند الحاجة إليها.
عزيزتي نهلة،
تلقيت رسالتك بخصوص ما قمت بكتابته عن اصابتي بالبوليميا، وُأقدّر لك اهتمامك بحالتي الصحية والنفسية. نعم يا سيدتي، أًصبت بالبوليميا في نفس الظروف الغامضة التي اصبت فيها باضطرابات القلق. كيف ومتي؟ سؤال مهم، أنا لا أعرف متي أًصبحت أعاني من اضطرابات القلق! كثيراً ما أجد نفسي أمام هذا السؤال من بعض أصدقائي المقربين الذين يُصدمون بذلك، ويبادرون بسؤالي: كيف اصبحتِ هكذا كي أرد مازحة: استيقظت من النوم لأجد نفسي هكذا!
استيقظت من النوم لأجد نفسي لا أرغب في الحياة، وأفكر في الموت، وأفتح شباك غرفتي عاجزة عن إتخاذ قرار القاء نفسي من الطابق السابع، وأقف علي رصيف المترو عاجزة عن إتخاذ قرار القاء نفسي أمام القطار القادم من النفق، وأفكر في شكل شرايين يدي المقطوعة لأحاول تخيل أيهما أكثر إيلاماً;  النزف المستمر أم إحداث الجرح القطعي بالمعصم!
أمضيت فترة منذ أن تحدثت معك أخر مرة يا سيدتي، لا أرغب في الحياة، وأشعر بعدم القدرة علي إتخاذ القرار الحاسم بإنهائها، لأعيش حياة هي إلي الموت أقرب، أنزف روحي وأحاول التعافي، فقط لتضربني نوبة الهلع الأولي أثناء إستعدادي للقيام بمهمة عمل معقدة.
لم تطل الحيرة كثيراً، حيث ضربتني الثانية أثناء سيري في الشارع في يوم جمعة كئيب وأنا أستعد للسفر لأداء مهمة العمل المعقدة، أما الثالثة التي فاجأتني كالإعصار، فاضطرتني لأن أحبس نفسي في دورة المياة لمدة 35 دقيقة في محاولة للسيطرة عليها، قبل أن أعلن فشلي وأخرج لاستنشاق الهواء النقي بعد نوبة هلع استمرت 45 دقيقة تقريباً.
معالجتي العزيزة،
أوتدرين اللحظة الحاسمة التي تغير من حياة بطل الرواية، لتصبح حياته بعدها ليست كما كانت قبلها؟ تلك هي اللحظة!
عند هذه اللحظة في منتصف أغسطس 2017، أدركت للمرة الأولي بأنني بحاجه لتدخل دوائي عاجل، ولذلك جاءت زيارتي الأولي لطبيب بناء علي ترشيح أحد الرفاق في أخوية ذوي الجوانب المظلمة.
بكثير من الصعوبة استوعبت أن حالتي سيئة، وأنني يجب أن أتناول بعض الأدوية، وأنني لا أعاني من الإكتئاب، وإنما من إضطرابات القلق التي تظهر في صورة نوبات هلع (بالإضافة إلي بعض الأشكال الأخري التي يحاول بها القلق التعبير عن وجوده المسيطر).
في البداية كان الأمر مرعباً، ثم مثيراً للفضول، ثم للضجر، ثم للتساؤل، حتي تقبلت الأمر، وأعلنت استسلامي للأمر الواقع، والإكتفاء بمحاولة التأقلم مع وضعي الجديد.
اضطرب نظامي الغذائي كثيراً بسبب نوبات الأكل العصبي الحادة التي تراودني أحياناً بسبب الأدوية أو بسبب الضغط الذي أعانيه، وفشلت في الإستمرار علي نظامي الغذائي الذي كنت أتبعه مسبقاً. ازداد وزني بشكل قد يبدو ملحوظاً لمن يعرفونني، لكن هذه الزيادة لم تؤثر علي شكل جسدي! فقط لم أعد نحيفة، ولم يتغير شئ.. مازلت استطيع ارتداء ثوب الاستحمام والتنورة القصيرة وبنطلونات الجينز الضيقة. لم يتغير مقاس ثيابي، ولم أضطر لاستبدالها، فقط كل ما تغير هو مقياس الميزان ليخبرني أن هناك عدة كيلوجرامات غير مرغوبة.
وهنا، بدأت المشكلة... أًصبحت أميل لإجبار نفسي علي التقيؤ كي لا يبقي الطعام الشرير في معدتي ليزيد وزني.
سيدتي العزيزة،
أعلم- كما تعلمين- أن هذه الفكرة حمقاء، وأنها قد تودي بحياتي يوماً ما، لكن من قال أن عقلنا في أسوأ حالاته قد يستجيب لقواعد التفكير المنطقي؟
لا أنسي أبداً طبيبي المعالج عندما أخبرته بإجبار نفسي علي تقيؤ الطعام، وكيف اصابته الصدمة وحذرني من هذا الفعل، ثم تقبل الأمر الواقع مع تكراره وأصبح جزءاً من جلسات العلاج التالية.
منذ فترة بسيطة، وأنا مصابة بفقدان شهية بدون سبب واضح. رغبة غريبة في عدم تناول الطعام، تصل أحياناً لدرجة "التجويع" خوفاً من الأكل الذي قد يزيد وزني، ثم خوفاً من الإكثار في الأكل، والذي قد يدفع بي للتقيؤ في نهاية المطاف.
وهكذا.. أًصبحت فريسة للبوليميا/ الأنوريكسيا أيهما أكثر إصراراً.
عزيزتي نهلة،
الشيطان يكمن في التفاصيل، ولذلك فالتفاصيل مؤلمة، وتتعب القلب وتجهد العقل. التفاصيل كريهة ولا تهم سوي أصحابها. تفصيلة تافهة كحلقي الذي يؤلمني بسبب الخدوش التي سببتها أصابعي في حلقي، أثناء محاول إجبار نفسي علي التقيؤ. تفصيلة لا تهم سواي، وسيمضي الوقت في النهاية وسوف أتذكر هذه التفاصيل المؤلمة، لتصبح موضوعاَ للسخرية السوداء من جانبي، كما أعتدت أن أفعل دوماً.
عزيزتي نهلة،
حاولت كثيراً أن أهرب من جانبي المظلم، حتي فشلت في قمعه  لفترة بالنهاية، والأن، تحررت الفتاة المتوحشة بداخلي، تحررت وأعلنت عليّ الحرب واصطحبت معها أشد كوابيسي سوداوية. أصبح جانبي المظلم يفرض السيطرة، ويفتعل الحروب، ويمارس حريته في تنحية ساره الضعيفة جانباً، حتي اضطرني في النهاية لعقد هدنة وصلح معه، علي أن يصبح له مطلق الحرية في إختيار اللحظة المناسبة التي يفصح فيها عن نفسه، ويمارس حقه في الحفاظ علي وجودي، الذي فشل عقلي الواعي في تأمينه.
دعيني أخبرك عن ساره بعد عام ونصف من القلق، ساره التي تشعر دوماً بوجود ظلال سوداء تحيط بها، ظلال تنعكس علي ملامحها لتكسبها سمت حزين كسمت راهبات عصر الشهداء. ظلال أنعكست في عينيها لتعطيهما نظرة هادئة، محايدة، لا مبالية –وأحياناً وديعة- لديها استعداد للتبدل 180 درجة في حالة استشعار الخطر، أو التهديد.
ساره جديدة، أكثر حكمة، وأكثر عقلانية، أكثر هدوءاً وروية، أكثر حسماً وأحياناً، أكثر قسوة. ساره أخري أكثر إيجابية، لا تجد غضاضة في الإنفجار غضباً في وجه مراهق أحمق يجذب كلباً أليفاً في الشارع، أو الإمساك بيد رجل عجوز متردد في عبور الشارع، أو اقتحام شجار سيدات في عربة مترو الأنفاق لتحرير فتاة صغيرة تحاول طرد رجل من عربة السيدات.
أصبحت أميل للصمت، ولتوفير طاقتي في المعارك التي لا يعرف عنها أحد شيئاً، ولإستغلال اللحظة المناسبة التي تحتاج لاستدعاء ظلالي السوداء العزيزة، للهجوم، والإنتقام، ولجعل العالم مكاناً أكثر سلاماً علي الأقل في مساحتي البسيطة.
أصبحت أميل لعقد الهدنة مع جوانبي المظلمة، طلباً للسلام واتقاءاً لشرها. لا أنكر أنني كثيراً ما افاجئ بما هو خفي عن إدراكي، وعما هو مخزون داخل غرف عقلي المظلمة، لكن مهما كان، لا يملك المرء سوي أن يتقبل نفسه كما هي، بظلالها البيضاء، والسوداء، والبنفسجية.
عزيزتي نهلة،
أعتذر عما سببته لك من قلق، وأرجو ألا تسبب كلماتي لكِ الضيق. أعلم أنك دائماً موجودة، وعلي استعداد لتقديم العون والمساعدة. لكنني أعلم أيضاً أن هذه المرة لا عذر لي. عليّ أن أتعايش مع جانبي المظلم الذي حاولت قمعه تارة، التخلص منه تارة، ومقاومتة تارة ثالثة. لربما أنا أوشك علي الميلاد من جديد، ساره أخري قوية، تستحق أن تصبح نجمة مضيئة في السماء كما تمنت دائماً.
خالص محبتي وودي، وتقديري، أيتها الغزالة.
ساره.