البومة

البومة

100 عام من النجاة: كيف نجونا من الجنون الذي أصاب الأخرين P1


تمتلئ صفحات الانترنت بشهادات المتعافين من الأمراض النفسية، والمرضي المزمنين لدي الأطباء- وليس الاخصائيين- النفسيين، كما تمتلئ مواقع التواصل الإجتماعي بنصائح القراء النهمين لعلم النفس، والمتعافيين.
في اليوم العالمي للصحة النفسية، تحتفي مواقع الأخبار، ومواقع الرأي والصحف الالكترونية بالناجين الذين قدموا لنا شهاداتهم حول مقاومة المرض النفسي، وأهمية الصحة النفسية في حياة الأفراد.
يتزامن كل ذلك مع العرض الأول لفيلم المهرج (جوكر/ Joker  ) عالمياً وفي مصر بالطبع، الفيلم الذي انتظره عشاق السينما بالكثير من الفضول والشغف، والذي أصاب الكثيرون منهم بالإحباط بعد مشاهدته كونه يتناول فصلاً من حياة مريض عقلي تحول إلي مجرم نتيجة للتنمر.
هذه التدوينة لا تهدف لمناقشة أهمية العلاج النفسي وخطورة التنمر، بل هي محاولة بسيطة لشرح: لماذا يشعر المتعافين من الأمراض النفسية والناجين المستمرين في تلقي العلاج والمساعدة النفسية بالكثير من التحسن عن سواهم ممن لم يختبروا تجربة العلاج النفسي. 

·       بداية الرحلة: كيف يبدو الأمر.

لأسباب مختلفة، كنت أشجع تجربة العلاج النفسي وطلب المشورة، كوني إنسانة متعلمة، عقلانية ( أو هكذا أعتبر نفسي) تؤمن بأهمية العلم والطب في جعل حياة الأفراد أفضل. لم اعتد كثيراً أن أنكر علي نفسي ما أدعو الاخرين للقيام به، ولما كنت أنصح من لديهم مشاكل غير قابلة للحل، أو ممن طوروا أعراضاً عُصابية أو ذُهانية باستشارة الطبيب النفسي، والمواظبة علي العلاج.
خلال أبريل 2014، أصبحت أشعر بأنني لست علي ما يرام علي الإطلاق، وأنني أحتاج للدعم والمساعدة المتخصصة، ولذلك لم أتردد في طلب المشورة والمساعدة من أخصائي نفسي (أخصائية نفسية، أو كما يشير اللفظ باللغة الإنجليزية: counselor ). 

عندما أخبرت أصدقائي عن التجربة، تلقيت الكثير من التساؤلات الشغوف عن "كيف يبدو الأمر"؟ هل تستلقين علي الشيزلونج ويقوم المعالج بتشغيل موسيقي كلاسيكية هادئة؟ هل يقوم الطبيب بالتسجيل؟ هل يدخن الطبيب الغليون ويجلس خلفك ليدون كل ما تقولين؟ هل اضاءة الحجرة خافتة كي تشعرين بالاسترخاء وتنطلقي للحديث عن مشكلات الطفولة؟
تبدو الأسئلة مضحكة للغاية، لكنها الصورة النمطية للطبيب أو المعالج النفسي والتي رسختها السينما في الأذهان، كما رسخت الكثير من الصور الأخري التي ساهمت وبقوة في وصم كل ما يتعلق بالصحة النفسية، سواء المتقدمين للحصول علي الخدمة (باللغة العامية: المرضي)، أو مقدمي الخدمة (الأطباء والأخصائيين النفسيين).
بحكم عملي في أحد المنظمات الدولية التي تهتم وتروج للصحة النفسية، كنت أدرك الفارق الكبير بين الطبيب النفسي والأخصائي النفسي، فالطبيب هو متخرج من كلية الطب ويحصل علي شهادة متخصصة في الأمراض النفسية والعصبية من كلية الطب وله السلطة العلمية والقانونية لوصف الأدوية. بينما الأخصائي النفسي هو غالباً متخرج من كلية الأداب (وما يماثلها من كليات الدراسات الإنسانية/ الأداب الحرة/ العلوم الإنسانية)، وليس له سلطة إستخدام الأدوية إلا بعد الحصول علي رخصة معينة تأتي بعد قضاء بعض الشهور الدراسية في كلية الطب غالباً للحصول علي شهادة متخصصة.
  لم تقم المعالجة النفسية بتسجيل أو تدوين ما أقوم بسرده لأسباب تتعلق بخصوصية المترددين علي الخدمة، ولم تقم بتشغيل موسيقي كلاسيكية كي يتمكن كل منا من سماع الأخر، ولم تقم بخفض إضاءة الغرفة لأن ذلك يدفعني للنعاس لا للإسترخاء، وبطبيعة الحال يوجد يوجد أريكة كبيرة مريحة للجلوس، ولي مطلق الحرية في إختيار طريقة الجلوس التي تشعرني بالإسترخاء والراحة.

ملاحظة أخري شديدة الأهمية: معالجتي لم تكن تدخن الغليون بطبيعة الحال، وحتي إذا كانت تدخن، فهي لا تقوم بذلك داخل الأماكن المغلقة لإعتبارات السلامة والصحة! 

استمرت تجربتي الأولي شهرين ثم أنقطعت لأسباب عديدة، من أهمها شعوري بأنني أصبحت بحالة أفضل وأنني لست بحاجة للمزيد من الإرشاد، وهو أمر شائع لدي من يخضعون للعلاج النفسي (السلوكي أو الدوائي)، ولذلك جانبه السلبي كما سنذكر لاحقاً. خلال الفترة الأولي، أخبرتني معالجتي ببعض الأشياء التي لم أقتنع بها والتي أُثارت نفوري، ولم أناقشها معها، ولعل ذلك ساهم في هربي السريع من التجربة بالإضافة للمزيد والمزيد من الظروف الشخصية الأخري.
بعد مرور عام ونصف من هذه التجربة، عاودت التواصل مع المعالجة مرة أخري لأطلب منها جلسة جديدة، وأخبرها عن رغبتي في استكمال العلاج. هذه المرة، كنت أكثر إصراراً وحرصاً علي التعافي، وكنت أحرص علي أن أتبع نصائح المعالجة وأناقشها في النقاط التي أجدها صعبة أو غير مقنعة.
ما حدث في المرة الثانية هو أنني تحسنت بالفعل بشكل ملموس، أصبحت أكثر تقبلاً لنفسي، أكثر تسامحاً معها، أكثر تقبلاً لجوانبي الأنثوية التي كنت أكرهها كثيراً. أصبحت أكثر تسامحاً مع جسدي وشعري الشائب، ولهجتي السريعة في الكلام، واندفاعي المضحك أحياناً. أًصبحت أعتز بنفسي وبكياني الأنثوي الذي كنت أحتقره، بل وساهم ذلك في قيامي بالإقدام علي خطوة ثورية ألا وهي تعلم رقصة كلاسيكية (التانجو الأمريكي)، والمضي قدماً في تعلم رقصات كلاسيكية أخري.

·       هل للعلاج النفسي جانبه المظلم/ المؤلم: الوجه الأخر من القمر:

يبدو الأمر غريباً، لأنه في نفس التوقيت الذي بدأت فيه الإنتظام مع معالجتي وإحراز تقدماً، حاول بعض الأصدقاء تجربة العلاج النفسي، والإلتزام مع معالجين أخرين وحقق الأمر فشلاً كبيراً مع رغبة في عدم تكرار التجربة بوصفها تجربة غير مجدية!
تلقيت الكثير من التساؤلات عن (هل معالجتك طبيبة جيدة)؟! وكان ردي الوحيد هو: بالطبع هي رائعة، لكنني كذلك التزم بالتعليمات وأستمع بانصات. خلال فترة العلاج، كنت أرغب وبشدة في أن أمضي للأمام قدماً، وأن أتمكن من العثور علي حل لمشكلاتي وأن أًصبح شخصاً أكثر اختلافاً، وأن أًصبح غداً أفضل من اليوم.

تقبلت جميع نصائح المعالجة، وحاولت أن احفر داخلي بعمق للعثور علي الإجابات التي لم تكن مبهجة علي الإطلاق. عرفت عن نفسي ما حاولت أن اخفيه عنها طوال مدة ثلاثين عاماً، عرفت وانهرت وبكيت وشعرت بالألم الشديد. الحقيقة دائماً مؤلمة، والبعض لا يرغبون في معرفتها عن الأخرين، فما بالك بالتعرف علي حقيقة نفسك وفهمها.
نعم، الكثير من البشر ينفرون بشدة من محاولات فهم حقيقة أنفسهم، ينفرون ويهربون ويخترعون المبررات بدون توقف. يفضلون اختراع المبررات والفضفضة والشكوي بدلاً من البحث عن حقيقة قد تولد آلاماً لا يمكن تحملها. من الحقائق التي أدركتها كذلك أن الآلم معروف المصدر هو أكثر قابلية للتحمل بكثير من الآلام غير معروفة المصدر أو المحتملة.
النقطة الأخري الشديدة الأهمية هي: أن أغلب الناس يميلون للذهاب للطبيب/ المعالج النفسي بسبب مشكلة ما يرغبون في حلها أو التخلص منها وينتظرون أن يخبرهم الطبيب أو المعالج بحل المشكلة. حسناً، المعالج لا يقدم إجابات، بل يساعدك علي ترتيب أفكارك وفهم المناطق المظلمة داخلك كي تتمكن من العثور علي الإجابة. إن كنت لا ترغب في ذلك، في يهم نفسك أو التعرف علي خفاياها، فكيف تتوقع أن يساعدك الأخرين؟!
عندما تذهب لطبيب الأوعية الدموية، أو الأسنان، أو الأمراض الباطنة، ثم يصف لك الطبيب العلاج كي يتم شفائك، فانت تحرص علي إتباع تعليمات الطبيب كي تتحسن حالتك الصحية. حسناً، لماذا لا نمارس نفس العادة مع الأطباء النفسيين؟ لماذا لا نعطيهم فرصة قبل تجربة سواهم بدلاً من إتهام علم النفس بالحماقة أو الفشل؟
أعترف بأن الأمر لا يبدو سهلاً علي الإطلاق، وهذه الحقائق تتضح وتظهر بالتدريج ولا تجلي أبداً مرة واحدة مباشرة.





(نهاية الجزء الأول).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق